التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
تأملات تاريخية .. بين غايتين، بين إنسان يعيش لنفسه، ويجعل غايته لذته وشهوته، وإنسان يجد سعادته في طاعة ربه ونيل رضاه، فأي غاية تكون أنت
روي أن الكلب قال للأسد: "يا سيد السباع! غيِّر اسمي فإنه قبيح"، فقال له: "أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم"، قال: "فجربني"، فأعطاه شقة لحم، وقال: "احفظ لي هذه إلى غدٍ، وأنا أغير اسمك"، فجاع، وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر، فلما غلبته نفسه، قال: "وأي شيء باسمي؟!، وما كلب إلا اسم حسن"، فأكل.
فهذه صورة لأصحاب الدون، الراضين بشهوات الدنيا وملذاتها، والمختارين لعاجل الهوى على آجل الفضائل وعلو المنازل، فإياك إياك أن تكون منهم فتهلك.
وإنك إن أعطيت بطنك سُؤْلَه *** وفرجَكَ نالا منتهى الذم أجمعا
واصغِ إلى نصيحة ابن الجوزي رحمه الله: "فاللهَ اللهَ في حريق الهوى إذا ثار! وانظر كيف تطفئه؟ فرب زَلَّةٍ أوقعت في بئر بوار، ورب أثر لم ينقلع (لم يزل)، والفائت لا يستدرك على الحقيقة، فابعد عن أسباب الفتنة، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم".
ومن المشهور في كتب الأدباء والمؤرخين أن الحطيئة الشاعر هجا الزبرقان بن بدر رضي الله عنه، فقال:
دَعْ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا *** وَاقْعُدْ فَإِنَّك أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
بمنظور الفطرة السليمة التي يحيا بها الإنسان النقي، علم الزبرقان أن قول الحطيئة فيه أقذع الهجاء وأفحش السباب، مع أن الكلام لا يعرض بالآباء والأمهات، ولا بالأعراض والسوءات، فما مرمى كلام الحطيئة؟!
لقد هاج الزبرقان وماج، وأرغى وأزبد، وشكا الأمر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقدمه عمر وقال للزبرقان: ما قال لك؟، فأنشده البيت، فقال عمر: ما أرى به بأسا!، قال: الزبرقان: "وما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس، والله يا أمير المؤمنين ما هجيت ببيت قطُّ أشدُّ عليَّ منه!"، فبعث إلى حسان بن ثابت رضي الله عنه ليثبت قيمة الهجو في هذا الشعر، وعمر رضي الله عنه لم يكن جاهلا بمرامي الكلام، ولكنه أراد الحجة على الحطيئة.
وقال لحسان: "انظر إن كان هجاه". فقال حسان: "إنه لدنسٌ، صبَّه عليه، لا تقوم له به كرامة"، وفي رواية: "لم يهجه، ولكن سلح عليه أو ذرق عليه!"، يقصد رمى عليه بفضلاته التي تخرج من فتحة شرجه، فحبسه عمر، وقال: "يا خبيث لأشغلنَّك عن أعراض المسلمين"، ثم وضعه في بئر مظلمة.
فاستعطفه الحطيئة بأبيات مشهورة، وشفع له عمرو بن العاص رضي الله عنه، فأخرجه عمر، وقال: "إياك وهجاء الناس". قال الحطيئة: "إذن تموت عيالي جوعاً، هذا كسبي ومنه معاشي". فاشترى منه عمر أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم.
إن هذه القصة على ما فيها من دروس وعبر، تبين عظيم الفارق بين إنسان يعيش لنفسه، ويجعل غايته همته في الطعام والشراب وإشباع ملذته وشهوته، وإنسان يجد سعادته في طاعة ربه ونيل رضاه وأن يربط الناس بربهم ويدلهم على حقيقة وجودهم ويطمئن إلى وضوح معالم الحق في أعينهم، إنه الفارق بين القلب المعلق بربه، الآنس بخالقه العامل لآخرته، المطمئن إلى مولاه، ومَن يعيش محجوبًا عن ربه، مسجونًا في شهواته، متخبطًا في حياته، متلبطًا في وحله.
لقد أدرك الأستاذ البهي الخولي في هذه القصة معنيين بارزين:
الأول: أن الحطيئة كان خبيرًا بالحياة، وأنها ذات وجهان أو غايتان، غاية خسيسة يعيش عليها الأدنياء، وغاية شريفة يحيا لها الفضلاء، فالأولون يرون سعادتهم لذة المطعم والملبس وكفى، والآخرون يجدُّون لتحصيل زادهم من الفضيلة، ومتاع نفوسهم من الخير والحق، وهذا هو ما كانت تقوم عليه الحياة فعلاً في ذلك العهد العمري الزاهر.
أما المعنى الثاني الذي يبرز في هذه القصة، فهو أن شعور الرأي العام كان شديد الحساسية بالفارق العظيم بين الغايتين، فكان أحدهم يسمو بهمته أن تنضمر في مطالب المعدة وترف البدن، ويفزع أن يوصم بين الناس بهذه الوصمة القاصمة؛ وإلى مكان هذا الفزع سدد الحطيئة ضربته القاسية إلى غريمه، أو صبَّ عليه دنسًا لا تقوم به الكرامة، على معنى ما قال حسان رضي الله عنه.
فمن عرف غايته النبيلة وسعى إليها كل مسعى، وجعل طلبته رضا الله ونيل جنته بتبليغ دعوته والمطالبة بتحكيم شرعه، فبهم تكون نجاة الأمة وسعادتها وعزها ومجدها.
وهذا الصنف النبيل علم أن الجنة سلعة غالية، وأن مرادها لا يكون إلا بهمة عالية وإرادة قوية، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة":
تهون علينا في المعالي نفوسنا *** ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
فمن صحت له غايته لان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معاني الإيمان، إذ إن "همم الرجال تزيل الجبال":
همم الأحرار تحيي الرِّمَما *** نفخة الأبرار تحيي الأُمُمَا
واعلم يا فتى الإسلام أن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة "عُمَرِيِّة" توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر منك صيحة "أيوبية" تغرس بذرة الأمل، في بيداء اليأس، وعلى قدر المئونة؛ تأتي من الله المعونة، فاستعن بالله ولا تعجز.
قد نهضنا للمعالي ومضى عنا الجمود *** ورسمناها خطًى للعِزِّ والنصر تقــود
فتقدم يا أخا الإسلام قد سار الجنـــود *** ومَضَوا للمجدِ إن المجدَ بالعزمِ يعود
وهي حياة -كما قال الراشد- تتمثل في الحرية والأمل، حرية تكسر قيود الشهـوات، وأمل بالأجر وثـقة بالنصر، كلمتان خفيفتان على اللسان، ثـقيلتان في ميزان التصارع العقائدي، كانتا دومًا في تاريخ التوحيد الطويل، تأخذان التعب من أجيال الدعاة من النبيين والصديقين والراشدين والتابعين ومن لحقهـم بإحسان على مـر القرون، فكلهم بالتعب كانوا يفرحون، يأبون إلا العلو في الحياة، ونحن إن شاء الله بهم لمقتدون.
ونفسُ الشريف لها غايتان *** ورود المنايا ونيلُ المنى
ولك أن تتصور أمة مجموع أفرادها من صنف، غاية همتهم توفير المآكل والمشارب، وتأمين المساكن والمراكب، فإذا بلغوا غايتهم من ذلك شعروا بالرضا وأظهروا الارتياح، ماذا سيكون حال القيم والمبادئ والأخلاق والأفكار؟!
وإذا كانت همتهم قد انتهت عند تلك الشهوات الدنيوية، فَمَن للحق ينصره؟، ومَن للدين ينشره؟ ومَن للأخلاق يعليها؟ ومَن للفضائل والعقائد يحرسها ويحميها؟!
ويا للأسف على حال أمة، شبابها أعلى ما يتمناه أحدهم أن يوجد من يصرف عليه وهو نائم، يملأ جفنه ويأكل ملأ بطنه، فماله وللبحث عن المكرمات وهو مطعوم مكسي !!؟ ولو أن الحطئية كان حيا لما وجد لهؤلاء الشباب مجدًا يهدمه ولا عزًا فيدنِّسه!!
شبابٌ قُنَّعٌ لا خير فيهم *** وبُورِك في الشباب الطامحينا
قال ابن القيم رحمه الله: "الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليس ما أعدَّ للاستفراخ كمن هيىء للسباق، من أراد من العمَّال أَن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل، وَبِأَيِّ شغل يشْغلهُ ،كن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا".
خلق الله للحروب رجالاً *** ورجالاً لقصعة وثريدِ
وفي هذا الصنف، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
هم شر من الأنعام وأضل؛ لأنهم غفلوا وساهوا عما خلقهم الله له وعما أُعد لهم غدا، وفيهم يقول ابن الجوزي رحمه الله: "لا يدرون لمَ خلقوا، ولا المراد منهم، وغاية همتهم: حصول بغيتهم من أغراضهم، ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم، يبذلون العِرْضَ دون الغرض، ويؤثرون لذة ساعة، وإن اجتلبت زمان مرض، يلبسون عند التجارات ثياب محتال، في شعار مختال، ويُلبِّسون في المعاملات، ويسترون الحال.
إن كسبوا: فشبهة، وإن أكلوا: فشهوة، ينامون الليل وإن كانوا نيامًا بالنهار في المعنى، ولا نوم بهذه الصورة، فإذا أصبحوا، سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير، وتبصيص كلب، وافتراس أسد، وغارة ذئب، وروغان ثعلب، ويتأسفون عند الموت على فقد الهوى، لا على عدم التقوى، ذلك مبلغهم من العلم".
فيا ويح أمة، حال أكثرهم عما يحاك بهم:
يخبرني البواب أنك نائم *** وأنت إذا استيقظت أيضًا فنائمُ
إن أعظم ما ابتليت به الأمة في زماننا هذ الصنف من الناس، وهم الغثاء الذين أخبر عنهم صلى الله عليه وسلم بقوله: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكَلة إلى قصعتها"، فقال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟ " قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء (ما يحمله السيل من وسخ) كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوَهَن"، فقال قائل: "يا رسول الله وما الوهن؟ " قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت" رواه أبو داود، وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة، (958).
وفيهم قال الشاعر:
وأفتح عيني حين أفتحها *** فأرى كثيرًا، ولكن لا أرى أحداً
لماذا لا نرى أحد ؟! لماذا أمة بلغ تعدادها المليار والنصف لا وزن لها ولا قيمة ؟! لأن أئمة البغي والفساد والاستبداد أرادوا لكل شعب عربي أن يكون قطيعًا من الغنم يأكل ويشرب ويداوى؛ لكنه لا يحمل عصا ولا يصد عدوًا، إنما الذي يحمل العصا هو سيده؛ فبها يهش عليه ويسخِّره، وبها يحد له الحمى الذي لا يتجاوزه. في حدود هذا الحمى تتمتع الغنم بحرية الأكل والشرب والثغاء والنزو والتوالد!!
هذا الصنف -كما قال ابن القيم- هم: " الهمج الرَّعاع، الذين يكدرون الماء، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد، فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش لهم الغبراء"، وهذا الصنف شر البرية: "رؤيتهم قذى العيون، وحُمَّى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار".
فهذا الضرب: "ناس بالصورة، وشياطين بالحقيقة، وجلهم إذا فكرت لها حمير أو كلاب أو ذئاب"، وصدق البحتري في قوله:
لم يبق من جل هذا الناس باقية *** ينالها الوهم إلا هذه الصور
وقال آخر:
لا تخـدعنــك اللحاء والصــور *** تسعــة أعشــار مَــن ترى بقـر
فـــي شجــــر السِّدْر منهم مَثَل *** لـــــها رواء ومــا لـــها ثمـــــر
وهم الموصوفون بقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 22 - 23].
فاللهم اهد أمتنا وارشدها لما فيه الخير، وخذ بيد شبابها إلى طاعتك وحسن عبادتك وجميل اللجوء إليك.
المصادر والمراجع:
1- أبو هلال العسكري: الأوائل، دار البشير - طنطا، الأولى، 1408هـ.
2- ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، دار المدني – جدة.
3- ابن عبد ربه: العقد الفريد، دار الكتب العلمية – بيروت، الأولى، 1404هـ.
4- ابن الجوزي: صيد الخاطر، دار القلم – دمشق، الأولى،1425هـ - 2004م.
5- الصفدي: الوافي بالوفيات، دار إحياء التراث – بيروت، 1420هـ- 2000م.
6- ابن القيم: مفتاح دار السعادة، دار الكتب العلمية – بيروت، د ت.
- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء، دار المعرفة - المغرب، الأولى، 1418هـ.
- الفوائد، دار الكتب العلمية - بيروت، الثانية، 1393هـ - 1973م.
7- محمد أحمد الراشد: الرقائق، طبعة الرسالة، الرابعة 1401هـ - 1981م.
8- البهي الخولي: تذكرة الدعاة، دار التراث -القاهرة، التاسعة، 1424هـ - 2004م.
9- محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم: علو الهمة، دار القمة - دار الإيمان، مصر، 2004م.
التعليقات
إرسال تعليقك